التفكير النقدي عبر المنهج الدراسي يدفع الطلاب للتفاعل مع المادة الدراسية
ها هو المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودوتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، في عصر كانت طريقة التفكير النقدية هي السمة الأبرز فيه، يقول عليّ أن أنقل ما قيل لي، لكن لا أراني ملزمًا بتصديق كل ما قيل لي واليوم، وفي ظل المتغيرات التي يشهدها العالم، بتنا أحوج ما نكون إلى نشاط عقلي يتصف بالتنظيم وتحكمه قوانين
تقوم على الاستدلال والاستنتاج بهدف اختبار صحة المعلومات المستقاة من مصادرها الخارجية، وبات من الأهمية البدء بتدريب الطالب أولًا على التفكير النقدي الإيجابي الذي يسلحه بهذه التقنية ليصبح مفكرًا وناقدًا في كل مجال من مجالات حياته المستقبلية يهدف هذا الكتاب لمؤلفه جيرالد ناسيتش البروفسور في جامعة نيو أورلينز إلى تدريب الطلبة على كيفية التفكير النقدي ضمن السياق أو الاختصاص الذي يدرسونه، وتحسين إدراكهم للمنهاج، وتحديد مدى علاقته مع حياتهم اليومية، والحصول على نظرة عامة على الاختصاص بحيث يمكنهم إدراك علاقة الأجزاء نسبة إلى المجموع، وذلك لدفع الطلاب كي يصبحوا متفاعلين مع المادة بدل أن يكونوا مجرد متلقين للمعلومات. ولا يوجد في قائمة العوامل التي تقود إلى التفكير النقدي مصطلح اسمه الحقيقة ، فالحقائق تقع تحت بند المعلومات، إنما قد يؤدي استخدام كلمة حقيقة من باب الاعتياد إلى تحويل التفكير النقدي وتضليله إن مجموعة المعلومات التي نكون متأكدين منها جدًا ندعوها حقائق، ونحن نؤمن أنه قد تم إثباتها عادةً على أساس مجموعة من المعلومات التي تبدو كأنها خالية من المشكلات مثلًا تُعَدّ حقيقةً مقولةُ إن نيل أرمسترونج هو أول إنسان مشى على سطح القمر ورغم أنه لا ضير من استخدام كلمة حقيقة وإنما بشكل حذر فإن هذه الكلمة تعد مصطلحًا يميل إلى إغلاق باب السؤال بدلًا من تفعيله، ولذا فالنظر إلى الحقائق من زاوية أنها معلومات يُخضعها لمساءلة العقل والمنطق, ليس التفكير النقدي كالتفكير المجرد غير النقدي، فالتفكير النقدي عملية تتضمن التواصل إلى نتائج حول أمر ما، وتكوين مفاهيم واضحة، ووجهة نظر محددة لهذا الأمر، وصوغ قرارات مبنية على الدراسة، وتمحيص الإثباتات التي تم التوصل إليها عن كثب بعيدًا عن القفز إلى نتيجة معينة من دون أي اعتبار للإثباتات أو البراهين أو التأثر بالأفكار المنحازة التي قد تقود بشكل غير عادل إلى قرارات غير صائبة.. إذن، فالتفكير النقدي لا بد أن يتوافر على شرطين أساسيين الأول، أن يقوم على تفكير تأملي في عملية التفكير نفسها والثاني، أن يعكس هذا التفكير التأملي المبني على مقاييس عالية منطقًا جيدًا ومقبولًا ووجهة نظر معينة، إن تعلم التفكير من وجهة نظر محددة يزوَّد الطالب بمنظور جديد يمكنه استخدامه لرؤية الأمور بشكل غير مسبوق ومثال ذلك إذا ما كان التفكير حول مسألة تتعلق بعلم النفس، يتم توجيه النظر إلى ما يخص هذا الحقل، وليس من وجهة نظر أحيائية أو دينية أو شخصية غير أنه وبموازاة ذلك، فإن التفكير من خلال أسئلة مهمة في موضوع ما يتطلب عادةً النظر إلى هذه الأسئلة من وجهة نظر ذات علاقة بمفاهيم أخرى أيضًا فمثلاً رؤية المشكلات البيولوجية من منظور بيوكيميائي قد تلقي ضوءًا على جوانب خافية من الموضوع المفكَّر فيه وتزيدها توضيحًا. ويمكن البدء بتعلم التفكير النقدي في مجالٍ ما بتعلُّم المنهج بطريقة عميقة وتأملية، وليس فقط باستذكار المعلومات أو بالاشتراك في مناقشتها أو مناظرتها، وهنالك طريقة مباشرة لتعلم التفكير النقدي، وذلك بأخذ عناصر التفكير واستخدامها في التفكير بخصائص المنهج، وهذه العناصر هي المصطلحات التي ينبغي أن يستخدم أكثرها تحديدًا وقوة، والسؤال الذي يتم تحديده ضمن نقاط مركزية في المجال المفكَّر به، ووجهة النظر الموضِّحة لكيفية النظر إلى العالم من خلال عيون هذا المنهج، كذلك، فإن تحسين التفكير النقدي يتم من خلال التدرب على طرح الأسئلة، بعيدًا عن الفكرة القائلة إن عدم استحضار الأسئلة في الذهن يدل على فهم الطالب للمسائل المعقدة، بل على العكس، إذا لم يخطر في البال سؤالٌ حول الموضوع المطروح، فهذا يعني أن الطالب لا يفهم الموضوع بشكل عميق وتحليلي يوصله إلى استنتاجات مهمة. المنهاج الدراسي: بالتركيز على المدرسة، بوصفها الحاضن الأول للتفكير الإبداعي، فإن من المهم أن يستقي الطالب المادة الدراسية على اساس أنها تخصه في مختلف مجالات حياته ورغم أن عددًا من المدرّسين يمتلكون الخبرة للتحدث حول موضوع ما بشكل ممتع، إلا أنه سرعان ما ينسحب الطلاب عندما يدركون أن هذا الموضوع لن يكون داخلًا في الاختبار إن الطريقة المثلى لتعليم الطالب طريقة التفكير النقدي من خلال المنهاج الدراسي، هي بمساعدته على ترسيخ الاعتقاد بأن المواد الدراسية التي يدرسها يمكنه تطبيقها في حياته إذا ما تعامل معها بجدية وتنظيم، إذ يمْكنه حينها تحقيق نتائج جيدة في الامتحانات أكثر مما سيحققه بواسطة حشو المعلومات، وبهذه الطريقة يصبح تعامل الطالب مع المنهاج الدراسي لا يعني تصديقه بطريقة أوتوماتيكية، بل أخذه بجدية ومعالجته كشيء يمكن التعلُّم منه، مما يساعده في فهم العالم بطريقة جديدة وغنية، ويصقل شخصيته المفكرة بسمات التفكير النقدي الفعال، التي من أهمها التأمل الفكري، والتواضع الفكري وهما بداية طريق الطالب نحو المعرفة.. ولذا فالمعيار الأول الذي يجب التركيز عليه من أجل الوصول إلى مرحلة التفكير النقدي هو الوضوح، وله بعدان أن تكون الفكرة المعنية واضحة في ذهن الطالب، وأن يتمكن الطالب من التعبير عن فكرته وإيصالها للطرف الآخر بحيث يفهم مقصده، ويتم ذلك من خلال إدراك المفكر النقدي لطبيعة الطرف الآخر الذي يتكلم معه، فإذا ما أراد، مثلًا ، شرح معنى البناء الضوئي للطفل، فيجب أن يختار المفردات التي تلائم الطفل، وإذا ما كان المحاوَر عالِمَ أحياء فيتم اختيار مجموعة مختلفة من المفردات كذلك يجب مراعاة طبيعة موضوع النقاش ومتطلباته والتركيز على النقاط ذات الأهمية الكبرى فيه مما يفضي إلى تعميق النقاش واتساع آفاقه. وبالنظر العميق، تبدو عملية القراءة عمليةَ تفكير نقدي، ويمكن للطالب أن يصبح قارئًا نقديًا مميزًا إذا ما ركز على التحليل أثناء القراءة، وكان متيقظًا أثناء عملية القراءة من أجل استخلاص المعلومات والمفاهيم وتنظيمها وإيجاد الروابط المنطقية التي تجمعها معًا وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه القراءة الواعية لا تتعارض مع القراءة من أجل المتعة وما ينطبق على القراءة ينطبق على الاستماع النقدي الذي يقود إلى فهم ما يقوله المتحدث وتحليل عناصره، وبعد فإن هذا الكتاب يفتح الآفاق أمام الطلبة ليكونوا قادرين على وصف الصورة الكلية للتفكير النقدي، مما يمنحهم الاستقلالية الفكرية والرغبة بالتفكير الذاتي باستخدام أفضل وسائل التفكير وعناصره ومعاييره.