من أعجب وأجمل ما قرأت
كلفت بتدريس مادة القرآن الكريم والتوحيد للصف الثالث الابتدائي قبل نهاية الفصل
الدراسي الأول بشهر واحد، حينها طلبت من كل تلميذ أن يقرأ، حتى أعرف مستواهم،
وبعدها أضع خطتي حسب المستوى الذي أجده عندهم.
فلما وصل الدور إلى أحد التلاميذ قلت له اقرأ
قال الجميع بصوت واحد
(ما يعرف، ما يعرف يا أستاذ)
فآلمني الكلام،
وأوجعني منظر الطفل البريء الذي احمر وجهه، وأخذ العرق يتصبب منه،
دق الجرس وخرج التلاميذ للفسحة، وبقيتُ مع هذا الطفل الذي آلمني وضعه،
وتكلمت معه، أناقشه، لعلي أساعده،
فاتضح لي أنه محبط، وغير واثق من قدراته، حتى هانت عليه نفسه؛
لأنه يرى أن جميع التلاميذ أحسن منه،
وأنه لا يستطيع أن يقرأ مثلهم، ذهبت من فوري، وطلبت ملف هذا الطفل؛ لأطلع على
حالته الأسرية، فوجدته من أسرة ميسورة، ويعيش مع أمه، وأبيه، وإخوته، وبيته مستقر،
واستنتجت بعدها أن الدمار النفسي الذي يسيطر عليه ليس من البيت والأسرة،
عندها فكرت جدياً في انتشال هذا الطفل مما هو فيه، خاصة وأنني أعرف بحكم الخبرة
مع الأطفال أن كل ذكي حساس، وكل ذكي مرهف المشاعر، ولا يدافع عن نفسه،
ولا يدخل في مهاترات قد يكون بعدها أكثرخسارة.
وبدأت معه خطتي، بأن غيرت مكان جلوسه،
وأجلسته أمامي في الصف الأول،
كتبت له جملة صعبة النطق، وأفهمته معاني كلماتها، حتى يتخيلها فيسهل عليه حفظها.
وقلت له: احفظ هذه الجملة غيباً بسرعة، ولا يطَّلع عليها أحد من أسرتك، ولا من
زملائك، وراجعتها معه خلسة عن أعين التلاميذ حين خرجوا إلى الفسحة،
إذ لم يكن هوحريصاً على الفسحة، لأنه ليس له صاحب ولا رفيق،
وفي أحد الأيام، وبعد أن قام الجميع بالتسميع
قلت لهم: عندي قصة قالوا وما هي؟ فسردت عليهم قصة من خيالي، من أجل أن أُدخل
فيها الجملة الصعبة التي حفظها ذلك الطالب وفهمها سلفاً، وقلت لهم: إن هناك جماعة
يسكنون قرية واحدة يقال لهم (القراقبة)، كانوا يحتفلون بعيد الأضحى، ويذبحون فيه
البقر، ويتفاخرون بذبائحهم، حتى أن كل واحد منهم يربي بقرته من شهر الحج إلى شهر
الحج سنة كاملة، يغذيها بأجود الأعلاف، حتى تكون سمينة، وكان عند (علي القرقبي)
بقرة يربطها أمام باب بيته في القرية، وكانت أكبر وأسمن بقرة في القرية كلها، والكل
يتمنون متى يأتي الحج، وتذبح هذه البقرة، ليشربوا من مرقها، ويأكلوا من لحمها.
ولكن المشكلة أن أهل القرية عندهم عادة هي أنهم إذا ذبحوا الأضاحي يطبخون رقابها،
ويضعون المرق في أوانٍ، تجمع في المكان الذي يتعايدون فيه، فدخل الشباب وأخذوا
يتذوقون المرق من كل إناء، فصاح أحدهم مفتخراً بذكائه: عرفتها، عرفتها،
فقالوا له: ماذا عرفت؟
قال: ( أنا عرفت مرقة رقبة بقرة علي القرقبي من بين مراق رقاب أبقار القراقبة )
وبعد هذه العبارة قلت لتلاميذي:
من الذكي الذي يعيد هذه العبارة، فتفاجأوا جميعاً، وطلبوا مني إعادتها، فأعدتها لهم،
وقلت: من الذكي الذي يعيدها؟ فحاول رائد الصف، والذين يشعرون في أنفسهم بالتميز،
فلم يستطيعوا إعادة حتى ثلاث كلمات منها،
فقلت لهم: هذه لا يستطيع أن يقولها إلا ذكي
فهم معناها، أين الذكي فيكم؟ والذي يريد المشاركة أطلب منه الخروج عند السبورة ومواجهة زملائه، وأنا أنظر إلى هذا التلميذ،
فإذا نظرت إليه يخفض يده؛ لأنه يخشى الإخفاق، فثقته بنفسه معدومة، خاصة أنه رأى
فلاناً وفلاناً من الذين يشار إليهم بالبنان يتعثرون، وأين هو من هؤلاء الذين أخفقوا؟ وإذا
أعرضت عنه ألمحُ أنه يرفع إصبعه عالياً. وبعد أن عجز الجميع طلبت من هذا الصبي:
1- أن يقول الجملة وهو جالس في مكانه،
وذلك لخوفي عليه إذا خرج ونظر إلى التلاميذ
أن يصيبه البكم الاختياري، من شدة خجله وحساسيته، فقالها وهو جالس على كرسيه؛
فصفقت له، وإذا بي أنا الوحيد المصفق، وكأن التلاميذ لم يصدقوني، لأنه قالها بصوت
خافت، علاوة على أن التلاميذ لم يلقوا له بالاً.
2- طلبت منه إعادتها مرة ثانية،
ولكن أمرته بالوقوف في مكانه، مع رفع الصوت، وابتسمت في وجهه، وقلت له: أنت
البطل، أنت أذكى من في الفصل، فقام وأعاد الجملة، ورفع صوته، فصفقت له أنا ومن
حوله من التلاميذ، فقال الآخرون: قالها يا أستاذ! قلت نعم، لأنه ذكي.
3- الآن وثقت من هذا التلميذ العجيب بعد أن حمسته، وشجعته،
وظهر لي ذلك في نبرات صوته. فقلت: أخرج أمام السبورة، وقلها مرة أخرى،
وأخذت أشحذ همته وشجاعته، أنت الذكي، أنت البطل،
فخرج وقالها والجميع منصتون، ويستمعون في ذهول.
4- ثم طلب مني التلاميذ أن آمره بأن يعيدها لهم..
فرفضت طلبهم، وقلت لهم: اطلبوا أنتم منه. وهدفي من ذلك أولاً: أن أشعرهم أنه أحسن
منهم، وأنه ذكي، وثانياً: حتى يثق هو بنفسه، وأن التلاميذ يخطبون وده، وأنه مهم بينهم،
وثالثاً: أن الفهم الذي عنده ليس عند غيره، وأن التلعثم وتقطيع الكلام الذي كان يصيبه
أصاب جميع زملائه في هذا الموقف.
5- وطلبوا منه الإعادة مرة أخرى،
فأخذت بيده، وقلت لهم أتعبتموه وهو يعيد لكم وأنتم لا تحفظون، ولا تفهمون،
لأنني على ثقة أنهم سيطلبون إعادتها منه مرات كثيرة،
فتركت ذلك له حتى يزداد ثقة بنفسه.
6- دق جرس انتهاء الحصة، وجاء وقت النزول إلى فناء المدرسة للفسحة،
فلم يخرجوا من الصف إلا بهذا الطالب معهم، وأخذوا ينادونه باسمه،
وكوّنوا كوكبة تمشي وهو يمشي بينهم كأنه قائد، أو لاعب كرة يحمل الكأس،
والفريق من حوله، فخرجت خلفهم، وشاهدت التلاميذ ينادون إخوانهم وأصدقاءهم في
الصفوف العليا، ويجتمعون حول هذا الطالب النجيب وهو يعيد لهم، وهم يرددون خلفه،
وهو يصحح لهم، وكثر أصدقاء هذا الولد وجلساؤه بعد أن كان نسياً منسياً، ووثق بنفسه،
وفي هذا اليوم نفسه طلبت منه أن يعرض هذه الجملة على أبيه وأمه، وإخوته، وجميع
معارفه، وأن يتحداهم بإعادتها،
وبعد الإجازة جاء والده إلى المدرسة، ولأول مرة أقابله، فقال: جزاك الله خيراً يا أستاذ،
بارك الله لك في أولادك، جزاء ما فعلت مع ولدي، وقال: لقد سألني الأقارب الذين
زارونا في الإجازة: من هو الطبيب الذي عالجت عنده ولدك، إذ كنا نعرفه يتهته في
كلامه، خجولاً منطوياً على نفسه، والآن تحدى الكبار والصغار رجالاً ونساءً، وتحداهم
بإعادة جملة صعبة، عجزنا نحن أن نرددها بعده، فقلت لهم إنه معلمه
جزاه الله خيراً.
واستمرت علاقتي بالأب حتى الآن، وأخذ يخبرني عن ولده، وأنه
انطلق بعد هذه القصة العلاجية وحقق ما لم يكن متوقعاً أبداً:
1- حفظ القرآن الكريم كاملاً، وأصبح عضواً فاعلاً في نشاطات الجماعة ورحلاتها.
2- تخرج في الثانوية العامة القسم العلمي بامتياز، حيث حقق 96% في المجموع الكلي للدرجات.
3- التحق بالجامعة قسم الرياضيات، وفي كل سنة دراسية كان ينال الكثير من شهادات
الشكر والثناء والتميز، حتى أنه تخرج بامتياز مع مرتبة شرف.
4- عين معيداً في إحدى الكليات بجامعاتنا.. وعلمت أنه حصل على قبول للدراسات العليا
في واحدة من أعرق الجامعات العالمية، ولا يزال المستقبل الواعد ينتظره بالكثير، خاصة
أنه ذاق حلاوة تميزه.
الأعمال الكبيرة تحتاج إلى همم كبيرة،
مع رغبة صادقة في التعامل مع المواقف بصدق وإخلاص . .
منقوووووووووول